كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ويدعوهم إلى منهج للحياة، ومنهج للفكر، ومنهج للتصور؛ يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة، المتمثلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان، العليم بما خلق؛ هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدد؛ ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء.
ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم، والثقة بدينهم وبربهم، والانطلاق في الأرض كلها لتحرير الإنسان بجملته؛ وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده؛ وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبها له الله، فاستلبها منه الطغاة!
ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله، لتقرير ألوهية الله سبحانه- في الأرض وفي حياة الناس؛ وتحطيم ألوهية العبيد المدعاة؛ ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله- سبحانه- وحاكميته وسلطانه؛ حتى يفيئوا إلى حاكمية الله وحده؛ وعندئذ يكون الدين كله لله. حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة.
ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو دعوة إلى الحياة بكل معاني الحياة.
إن هذا الدين منهج حياة كاملة، لا مجرد عقيدة مستسرة. منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وتترقى. ومن ثم هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها. وفي كل مجالاتها ودلالاتها. والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية:
{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}.
استجيبوا له طائعين مختارين؛ وإن كان الله- سبحانه- قادراً على قهركم على الهدى لو أراد:
{واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}..
ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة.. {يحول بين المرء وقلبه} فيفصل بينه وبين قلبه؛ ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه، ويصرفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد. وصاحبه لا يملك منه شيئاً وهو قلبه الذي بين جنبيه!
إنها صورة رهيبة حقا؛ يتمثلها القلب في النص القرآن، ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس!
إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم. اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته؛ والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس.. والتعلق الدائم بالله- سبحانه- مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته، أو غفلة من غفلاته، أو دفعة من دفعاته..
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». فكيف بالناس، وهم غير مرسلين ولا معصومين؟!
إنها صورة تهز القلب حقاً، ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات، ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه، وهو في قبضة القاهر الجبار، وهو لا يملك منه شيئا، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير!
صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم:
{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}..
ليقول لهم: إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى- لو كان يريد- وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة، ولكنه- سبحانه- يكرمكم؛ فيدعوكم لتستجيبواعن طواعية تنالون عليها الأجر؛ وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان.. أمانة الهداية المختارة؛ وأمانة الخلافة الواعية، وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة.
{وأنه إليه تحشرون}..
فقلوبكم بين يديه. وأنتم بعد ذلك محشورون إليه. فما لكم منه مفر. لا في دنيا ولا في آخرة. وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور، لا استجابة العبد المقهور.
ثم يحذرهم القعود عن الجهاد، وعن تلبية دعوة الحياة، والتراخي في تغيير المنكر في أية صورة كان:
{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}..
والفتنة: الابتلاء أو البلاء.. والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره- وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة- ولا تقف في وجه الظالمين؛ ولا تأخذ الطريق على المفسدين.
جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين.. فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع (فضلا على أن يروا دين الله لا يتبع؛ بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها!) وهم ساكتون. ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون!
ولما كانت مقاومة الظلم تكلف الناس التكاليف في الأنفس والأموال؛ فقد عاد القرآن بذكر العصبة المسلمة- التي كانت تخاطب بهذا القرآن أول مرة- بما كان من ضعفها وقلة عددها. وبما كان من الأذى الذي ينالها، والخوف الذي يظللها.. وكيف آواها الله بدينه هذا وأعزها ورزقها رزقا طيبا.. فلا تقعد إذن عن الحياة التي يدعوها إليها رسول الله. ولا عن تكاليف هذه الحياة، التي أعزها بها الله، وأعطاها وحماها:
{واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون}..
اذكروا هذا لتستيقنوا أن الرسول يدعوكم لما يحييكم؛ واذكروه كي لا تقعدوا عن مكافحة الظلم في كل صوره وأشكاله.. اذكروا أيام الضعف والخوف، قبل أن يوجهكم الله إلى قتال المشركين، وقبل أن يدعوكم الرسول إلى الطائفة ذات الشوكة وأنتم كارهون.. ثم انظروا كيف صرتم بعد الدعوة المحيية التي انقلبتم بها أعزاء منصورين مأجورين مرزوقين. يرزقكم الله من الطيبات ليؤهلكم لشكره فتؤجروا على شكركم لفضله!
ويرسم التعبير مشهدا حيا للقلة والضعف والقلق والخوف:
{تخافون أن يتخطفكم الناس}..
وهو مشهد التربص الوجِل، والترقب الفزع، حتى لتكاد العين تبصر بالسمات الخائفة، والحركات المفزَّعة، والعيون الزائغة.. والأيدي تمتد للتخطف؛ والقلة المسلمة في ارتقاب وتوجس!
ومن هذا المشهد المفزع إلى الأمن والقوة والنصر والرزق الطيب والمتاع الكريم. في ظل الله الذي آواهم إلى حماه:
{فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات}..
وفي ظل توجيه الله لهم ليشكروا فيؤجروا:
{لعلكم تشكرون}..
فمن ذا الذي يتأمل هذه النقلة البعيدة، ثم لا يستجيب لصوت الحياة الآمنة القوية الغنية.. صوت الرسول الأمين الكريم.. ثم من ذا الذي لا يشكر الله على إيوائه ونصره وآلائه، وهذا المشهد وذلك معروضان عليه، ولكل منهما إيقاعه وإيحاؤه؟
على أن القوم إنما كانوا يعيشون هذا المشهد وذاك.. كانوا يذكرون بما يعرفون من حالهم في ماضيهم وحاضرهم.. ومن ثم كان لهذا القرآن في حسهم ذلك المذاق..
والعصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الأرض وفي حياة الناس؛ قد لا تكون قد مرت بالمرحلتين، ولا تذوقت المذاقين.. ولكن هذا القرآن يهتف لها بهذه الحقيقة كذلك. ولئن كانت اليوم إنما تعيش في قوله تعالى:
{إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس}.
فأولى لها أن تستجيب لدعوة الحياة التي يدعوها إليها رسول الله؛ وأن تترقب في يقين وثقة، موعود الله للعصبة المسلمة، موعوده الذي حققه للعصبة الأولى، ووعد بتحقيقه لكل عصبة تستقيم على طريقه، وتصبر على تكاليفه.. وأن تنتظر قوله تعالى:
{فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون}.
وهي إنما تتعامل مع وعد الله الصادق- لا مع ظواهر الواقع الخادع- ووعد الله هو واقع العصبة المسلمة الذي يرجح كل واقع!
ثم يتكرر الهتاف للذين آمنوا مرة أخرى.. إن الأموال والأولاد قد تُقعد الناس عن الاستجابة خوفا وبخلا. والحياة التي يدعو إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حياة كريمة، لابد لها من تكاليف، ولابد لها من تضحيات.. لذلك يعالج القرآن هذا الحرص بالتنبيه إلى فتنة الأموال والأولاد- فهي موضع ابتلاء واختبار وامتحان- وبالتحذير من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان؛ ومن التخلف عن دعوة الجهاد؛ وعن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة. واعتبار هذا التخلف خيانة لله والرسول، وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض، وهي إعلاء كلمة الله وتقرير ألوهيته وحده للعباد، والوصاية على البشرية بالحق والعدل.. ومع هذا التحذير التذكير بما عند الله من أجر عظيم يرجح الأموال والأولاد، التي قد تُقعد الناس عن التضحية والجهاد.
{يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم}..
إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول. فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.. قضية إفراد الله- سبحانه- بالألوهية؛ والأخذ في هذا بما بلغه محمد صلى الله عليه وسلم وحده.. والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة؛ ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى. أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة. وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان- وهذا هو غالب الشرك ومعظمه- ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله. ولكن حملهم على إفراده- سبحانه- بالألوهية، وشهادة أن لا إله إلا الله، أي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية- كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون- تحقيقا لقول الله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله؛ ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه..
هذه هي قضية هذا الدين- اعتقادا لتقريره في الضمير، وحركة لتقريره في الحياة- ومن هنا كان التخلي عنها خيانة لله والرسول؛ يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان؛ فأصبح متعينا عليها أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي؛ والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد.
كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم على الإسلام. فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان، وليس مجرد عبارات وأدعيات. إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق. إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله؛ وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق؛ ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء؛ وتأمين الحق والعدل للناس جميعا؛ وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت؛ وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله..
وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها؛ وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله.
وكل أولئك في حاجة إلى التضحية والصبر والاحتمال؛ وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد، وإلى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم، المدخر لعباده الأمناء على أماناته، الصابرين المؤثرين المضحين:
{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم}..
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية، بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي، وبما يطلع منها على الظاهر والباطن، وعلى المنحنيات والدروب والمسالك!
وهو- سبحانه- يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة. ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها.. ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد.. لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها. فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء؛ ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه.. أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها؟ أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها؟: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} فالفتنة لا تكون بالشدة وبالحرمان وحدهما.. إنها كذلك تكون بالرخاء والعطاء أيضا! ومن الرخاء العطاء هذه الأموال والأولاد..
هذا هو التنبيه الأول:
{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة}..
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار، كان ذلك عونا له على الحذر واليقظة والاحتياط؛ أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة.
ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض.. فقد يضعف عن الأداء- بعد الانتباه- لثقل التضحية وضخامة التكليف؛ وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد! إنما يلّوح له بما هو خير وأبقى، ليستعين به على الفتنة ويتقوى:
{وإن الله عنده أجر عظيم}..
إنه- سبحانه- هو الذي وهب الأموال والأولاد.. وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد، فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد.. وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف، الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه:
{وخلق الإنسان ضعيفاً} إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصور، والتربية والتوجيه، والفرض والتكليف. منهج الله الذي يعلم؛ لأنه هو الذي خلق: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} والهتاف الأخير للذين آمنوا- في هذا المقطع من السورة- هو الهتاف بالتقوى. فما تنهض القلوب بهذه الأعباء الثقال، إلا وهي على بينة من أمرها ونور يكشف الشبهات ويزيل الوساوس ويثبت الأقدام على الطريق الشائك الطويل.. وما يكون لها هذا الفرقان إلا بحساسية التقوى وإلا بنور الله:
{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم}..
هذا هو الزاد، وهذه هي عدة الطريق.. زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي. وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر؛ فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة.. ثم هو زاد المغفرة للخطايا. الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار.. وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال.
إنها حقيقة: أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق. ولكن هذه الحقيقة- ككل حقائق العقيدة- لا يعرفها إلا من ذاقها فعلا! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها!.